Wednesday, October 10, 2007

محرومون من الاعتكاف!



إذا كان من بين جوانب الحكمة والفائدة من صيام رمضان أن تأخذ المعدة قسطها من الراحة، فيما يشبه إجازة عملية سنوية مجدّدة للنشاط، فإنّ سنّة الاعتكاف أقرب ما تكون إلى فترة إجازة نفسية مشابهة، تفتح أمام المسلم باب الخروج من الحياة الدنيا ومشاغلها ومشكلاتها، ليقبل على خالقه وخالق الدنيا، فينقطع عنها ويستمدّ المزيد من الزاد لمتابعة رحلته فيها إلى يوم الأجل المكتوب، أو ليس هذا ما نفهمه من قوله عزّ وجلّ: {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى}. في الاعت
كاف.. إذا اكتملت شروطه وأجواؤه، وصدقت النيّة في الإقبال عليه، يجد العبد نفسه فردا بين يدي الله تعالى، ليس بينه وبين الله وسيط، ولا يحجبه عنه مخلوق، خلقه فردا مسئولا وسيأتيه يوم القيامة فردا، فيجدّد العبد المعتكف إيمانه بالله، الخالق القادر المهيمن على كلّ شيء.. فمن ذا الذي يستحقّ أن يخشاه، أو يحسب له حسابا من دون الله؟.
أيام معدودات
وهل يضيره أن ينقطع أيّاما أو ساعات كلّ عام عن طلب الرزق والمال ليؤدّي سنّة الاعتكاف، وهو إنّما ينفّذ بذلك أمرا ربّانيا كما أراده الوهّاب الرزاق، مالك الدنيا وما فيها ومن فيها.. فمن يجعل من تلك الليالي المعدودات ليالي عبادة، صلاةً وقياما وتلاوةً وذكرا، سيخرج منها بصفاء عميق، وطاقة أكبر، وقدرة على طلب العلم والمعرفة تفوق ما كان يعرفه عن نفسه قبل الاعتكاف.
الاعتكاف إذ
ا أدركنا بعضا من حكمته، ووضعناه في موضعه، ولم نظلم أنفسنا قبله بقصور وتقصير، ولا بعده بقعود وخمول، كان لنا أحد تلك المنابع التي جعلها الله تعالى مصدرا من مصادر الطاقة الإيمانية الأشبه بالمعجزات، تعطي بسخاء لا حدود له، وتدفع المؤمن إلى عمل لا ينقطع، ودأب لا يفتر، وهمّة لا تضعف، وارتباط به جلّ وعلا تضمحلّ في ظلّه سائر الارتباطات بسواه، وجميع العراقيل على طريق الدعوة والعمل في سبيله.
هذا ممّا يثير في النفس إحساسا عميقا بالأسى على المحرومين من نعمة الاعتكاف.. ولا يسري هذا على فريق ممّن نذروا أنفسهم لأعمال لا تحتمل أن يهجروها ولو لبضعة أيام أو ساعات، كمن يقوم على مريض يحتاج إلى رعاية، أو مسنّ يحتاج إلى معونة، أو على شأن من شئون الناس ائتمنوه عليه، أو سوى ذلك من المهامّ التي يجب أن تجد دوما من يؤدّيها لتستقيم الحياة في المجتمع.. فهؤلاء جديرون بصادق الامتنان وأحسن الدعاء، أن يضاعف الله تعالى لهم الأجر في الدنيا والآخرة، وأن يعوّضهم بما يستحقّون عن حرمانهم من نعمة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
خداع النفس
إنّما المحروم من حرم نفسه بعذر من الأعذار، لا يصمد طويلا عند النظر فيه، وقد يكون من قبيل خداع النفس؛ إذ يوهمها باستحالة أن يدع ما بين يديه من شئون الدنيا والدين، ليعتكف منقطعا عن الدنيا ما استطاع إلى ذلك سبيلا. إنّ للدنيا عبئا على النفوس يزداد ثقله كلّما ازداد الاستغراق فيها، ومن دواء المصاب بها الاعتكاف، وإنّ للشيطان فيها مداخل توهم الساعي لها بأنّ عمله فيها لله، فلا ينبغي أن يقطعه للاعتكاف، وإن كان من عبادة الله وبأمر من الله، وإنّ للنفس في رمضان وقد صُفّدت الشياطين أبوابا مماثلة، فإذا ران الوهن على قلب من القلوب صعب على صاحبه التخلّص منه، فيزداد بعدا عن طلب الشفاء ممّا ران على قلبه، وإنّ الاعتكاف سبيل من سبل الرحمن للشفاء. أولئك المحرومون من الاعتكاف، هم من يستحقّون الأسى، كما أنّهم يستحقّون الدعاء، أن يستعيدوا فيما بقي من رمضان القدرة على رؤية دينهم ودنياهم بالصورة المتوازنة المتكاملة كما أرادها الله عزّ وجلّ، فلا يكون فيها أمر على حساب آخر، ولا شأن يشغل عن شأن، وسيجدون آنذاك العون من الله تعالى، ويستشعرون -ولو في بضع ساعات- حلاوة الانقطاع للصلة به عزّ وجل، وما يصنعه ذلك في نفوسهم وحياتهم من تغيير يصاحبهم مفعوله من رمضان إلى رمضان عبر شهور السنة.

No comments: