فكروا معانا في إيه اللي ممكن يحصل لما الحب يتحول من نعمة لنقمة.. لما المشاعر تترتب عليها عواقب ممكن تأثر على أفراد كتير.. أصل الحب ده مش فعل فردي، يعني مش مرتبط بالشخصين اللي بيحبوا بعض وبس، فيه أطراف كتيرة متشابكة.. طب ممكن المشاعر تيجي في وقت غلط؟ ويا ترى ده ممكن يترتب عليه إيه؟
خلونا نعيش أحداث القصة..
بعد سهرة حافلة مع أصدقائك تعود يا "أحمد" إلى منزلك.. سهرة من النوع المعتبر.. عاكست كام بنت وضحكت حتى أوجعك بطنك دخلت فيلما لمجرد الفرفشة.. تفسحت في المول.. (ضربت) كام ساندويتش.. وفي النهاية أوصلك صديقك "أشرف" بسيارته القديمة التي توقفت واضطررت لدفعها وسط كثير من السباب الذي أمطرت به صديقك لكنك في الحقيقة لست متضايقا باعتبار ذلك جزءا من المرح.
باختصار سهرة ممتعة بكل المقاييس الشبابية..
لكن نهاية الأمسية لم تكن ممتعة على الإطلاق.. بعبارة أخرى (غم).. للمرة الألف يتأكد لك صدق الحكمة المصرية "اللهم أجعله خيرا" بعد الضحك.. في أعماق المصري يقين أن المرح ليس من حقه.. لذلك يقلق في نهاية الأمسية..
والحكاية أنه شعر بجو متوتر في البيت بمجرد دخوله.. لا أحد يملك تفسيرا ولكنها ربما رائحة الحزن.. أو تلك الهرمونات التي تطلقها الغدد الصماء في الانفعالات، وتشعر بها بعض الحيوانات فتعدو ورائك عند استشعارها خوفك منها.. تقلص بطنك وقلت متوجسا بأثر رجعي: "اللهم أجعله خيرا".
الجو نصف مُطفأ.. إضاءة خافتة وماما تبكي بلا صوت.. تقشعر أنت من صوت البكاء المكتوم لأنه دليل على حزن عميق.. للعويل نغمة محببة باعتباره نوعا من التنفيس سيفضي للهدوء الشامل بعد استنفاذ الانفعالات.. لكن ماما تبكي في صمت.. تتأكد مخاوفك وتخطر على بالك آلاف التساؤلات.
بابا مات؟.. لا يبدو أنه ينوي أن يفعلها في الوقت القريب على الأقل.. على العكس لم يكن أحسن حالا منه في الأيام السابقة.. يتأنق في ثيابه بشكل غير مألوف.. جرب حلق شاربه الأسبوع الماضي وراح يستجدي كلمة ثناء، أو تأكيدا بأنه يبدو أصغر.. ينظر لمقاس حزامه في قلق ويبدو غير مرتاح لترهل عضلات بطنه.. حينما دخلتَ عليه الغرفة وجدته يمارس تمارين تقوية البطن في همة بل ودعاك لمشاركته التمرينات.. يضمخ وجهه بالكولونيا بعد حلاقة ذقنه بعد أن كان يطالبك بالاقتصاد.. كلها تغيرات لم تنتبه لمعناها وقتها لكنك ضحكت وقلت: "دعه يعيش حياته أو ما تبقى منها".. خصوصا أنه صار ظريفا الفترة الماضية وكف عن لومك لتأخرك في العودة إلى البيت ولم يعد يطالبك بالمذاكرة إلا نادرا.. في الحق يبدو مشغولا بشيء ما لكن هذا لا يهمك كثيرا.
والخلاصة أن موته ليس متوقعا هذه الأيام.. وعلى كل حال فها هو أمامك ينظر في حذر لماما المستغرقة في البكاء بشكل مدهش.. ليس مجرد البكاء فحسب ولكنه منهارة على نفسها..
"متهدلة" هذا هو الوصف الصحيح.. وكأن عضلاتها لا تحملها.. أو تشدها جاذبية الأرض دون مقاومة.
تركع بجوار الكرسي المريح.. تتساءل في انزعاج عما حدث.. ماما لماذا تبكين؟.. ماما لا ترد بل لا تشعر بك أصلا.. ترتجف من الخوف.. هل مات أحد؟.. "نوسة".. يرتفع صوتك مناديا أختك "إيناس" التي تأتي وقد عصقت شعرها للوراء فبدت جبهتها عريضة متسعة أكثر من الطبيعي وعيناها متورمتان ونظرة محذرة في عينيها.. تحاول أن تبتلع ريقك فلا تجد شيئا تبتلعه.. تشدها إلى خارج الغرفة متسائلا عما حدث..
وهناك يأتي الخبر صاعقا: بابا حيتجوز !!
يفاجئك الخبر.. تكتم سبة توشك أن تغادر شفتاك.. بابا حيتجوز!!.. تفهم –بأثر رجعي– كل التصرفات التي أثارت دهشتك -ولا أقول ريبتك فالفكرة نفسها لم تخطر ببالك قط-.. يتجوز ازاي؟.. ما هو متجوز!!.. تقول "نوسة" في وجوم: بابا اتجنن وماما حتموّت نفسها.
هذه المرة لا تبالي أن تكتم السبة.. تندفع في غضب إلى ماما المتكومة وقد بدأت تأخذ سمه رجل البيت الذي يدافع عن حقوق ماما الضعيفة.. المقهورة والمسكينة.. تحضنها في قوة.. تربت على شعرها.. تعلن غضبك وتمردك وتصمم على مواجهة أبيك فتندفع إلى غرفة نومه الموصدة بعد طرقة خفيفة لا تعني استئذانا ولكنها مجرد تحصيل حاصل.. بابا يرقد على السرير متظاهرا بالقراءة.. لكنك تعرف من نظراته الزائغة أنه لا يفهم كلمة من المكتوب أمامه وأغلب الظن أنه لم يقلب صفحة الكتاب من ساعتين على الأقل.. لكنه على كل حال يطوي الكتاب جانبا وقد أمتقع وجهه.. يحاول أن يبتلع ريقه لكنه ريقه هو الآخر يبدو ناشفا..
يقول لك في ارتباك:
أهلا يا "حمادة".. متى جئت؟..
تتجاهل السؤال وتدخل في الموضوع مباشرة:
بابا.. لماذا تبكي ماما؟
يتنحنح في ارتباك ثم يقول بصوت مهتز:
ولا حاجة.. زعلانة شوية بس بكرة حتبقى كويسة.. المهم أنت عامل إيه في المذاكرة؟
تتجاهل سؤاله الأخير وتقول في إلحاح:
"إيناس بتقول أنك ناوي تتجوز، صحيح الكلام ده يا بابا"؟
تبدو في عينيه نظرة فأر في مصيدة.. في الحقيقة يلين قلبك قليلا لإحراجه الواضح لكنك تتذكر ماما المتهدلة على الكرسي المريح فيزداد تصميمك على المواجهة..
- يعني.. الموضوع مش بالشكل ده.. أقصد مش قررت إني أتجوز.. هي فكرة يعني.. أنت عارف طبعا، صح؟
يقولها في توسل وعيناه تناشدانك أن تعفيه من الموقف المحرج لكنك تواجهه بنظرة ثابتة وتقول في سماجة:
- لا مش فاهم.. حتتجوز بصحيح؟
- محتمل، يقولها في ارتباك متجنبا النظر لعينيك.
- وماما؟.. تقولها في لوم بصوت مرتفع يوشك أن يكون وقحا.
- مالها؟ يقولها بابا متظاهرا بالبراءة فيفور دمك.
- مالها أزاي بس؟.. تفتكر حتكون مبسوطة بكده.
- لا طبعا.
- طيب ما دام عارف إنها مش حتكون مبسوطة حتتجوز ليه؟
جاءت المواجهة.. أو الجزء المحرج منها.. هذه الأشياء التي لا يجرؤ الأب على ذكرها بصراحة أمام أبنائه ويتوقع أن يفهموها ضمنيا..
يستمد من إحراجه قوة ويقول بصوت واثق نوعا:
- الشرع يبيح ذلك.. الصحابة كانوا خير البشر وتزوجوا أكثر من واحدة.. حنكون احنا أحسن من الصحابة؟، يقولها بابا في لهجة ضاحكة.
- يعني الصحابة ما خلاّهومش كويسين غير إنهم اتجوزوا كتير يا بابا؟ وبعدين احنا عملنا كل حاجة ومش فاضل لنا غير التعدد؟
يرتبك بابا مثل فأر محاصر ويقول:
- لا طبعا ما أقصدش كده.. بس اللي يتجوز تاني ما عملش حاجة غلط.
- وهو زعل ماما مش غلط يا بابا؟.. (ماما اللي تعبت عشانا وعشانك) -تقولها في شبه زغرة- وتتجاهل طبعا أنها مطلعة عنيه وتشخط فيه كثيرا..
ينظر لك بابا نظرة يمكن ترجمتها "آه يا بن الكلب يا نصاب!!".. فتقول في مداهنة:
- يعني يا بابا.. أنت عارف.. الخلافات الزوجية بتحدث في أحسن العائلات.. وماما والله طيبة بس أعصابها تعبانه شوية.. وفيها إيه يعني لما تزعق لك شوية.. ده الراجل ما يبقاش راجل إلا لو بيخاف من مراته.
يضحك بابا في افتعال ثم يتذكر أن أمامه نقاشا ينبغي أن يحسم.. يضع يده على كتفك في حنان أبوي زائف ويقول لك في لهجة حكيمة:
- "حمادة".. اسمع... أنت ما عدتش صغير.. أنت بقيت راجل (لحظتها تنظر إليه في استرابة متوقعا الأسوأ).. ولازم تكون جدع مع باباك وتلطف الجو مع ماما.. وبعدين أنا ماقلتش إني حاطلقها أو حاتخلى عن أسرتي.. وبعدين أنا إنسان ومن حقي أحب برضه (يقولها في مكر محاولا استدرار عطفك).
- ما تحب يا بابا، حد قال لك ما تحبش؟.. حبني وحب "إيناس" وحب ماما كمان (تقولها في مكر مماثل).
- طبعا طبعا باحبكم كلكم، هو أنا ليّ في الدنيا دي غيركم.. بس!!
- ما بسش ولا حاجة.. يالاّ يا بابا أنت طول عمرك ظريف ومضحي عشانا.. يرضيك ماما تنهار بالشكل ده وقلبها ينكسر؟ يرضيك "نوسة" تبقى مش عارفة توري وشها لزميلاتها ويمكن كمان ما تعرفش تتجوز!! طب سيبك مني، أنا عارف أني ابن كلب وجلدي تخين ولو حد كلمني حاضربه علقة.. إنما ماما و"نوسة" يا بابا.
يحمر وجه المسكين ويبدو محاصرا تماما بالعواطف المعوقة.. ينتابك شعور حقيقي بالإشفاق عليه.. تتأكد فجأة أن بابا الرجل الخمسيني واقع في الحب مثل مراهق صغير.. لم تكن تتصور هذا ولكنه حدث.. في الحقيقة نظرتك إليه لا تختلف عن نظرتك لبقرة حلوب.. إنه يعمل لتوفير احتياجاتك ورفاهيتك.. مجرد آلة مخلصة.. هكذا تنظر لأبيك طول الوقت غافلا أنه بشر.. من لحم ودم.. ربما يكون الحب في هذا العمر موجعا؟ من يدري؟.. الشاب في سنك لا يبالي بفتاته.. تذهب ويأتي غيرها لكن في هذه السن تكون الفرصة أخيرة وتعقبها الشيخوخة.. من الطبيعي أن يتشبث بها.
يقول بابا في محاولة يائسة:
- "حمادة" حاول تفهمني.. طول عمر أجدادنا كانوا بيتجوزوا والدنيا يعني ماكانتش بتخرب.. الستات كانوا بيعتبروا ده شيء عادي وبيتعايشوا.. بس شوية المثقفين اللي راحوا الغرب أيام "الطهطاوي" و"قاسم أمين" انبهروا باللي شافوه.. ورجعوا يقولوا كاني وماني.. وفجأة بقت السينما المصرية ما لهاش هم غير تنتج أفلام تلعن في أبو الرجل اللي بيتجوز تاني.. تعتبره خاين وفلاّت.. طبعا ده مش حقيقي يا "حمادة".. الحب ممكن يحصل فجأة وفي أي سن.. وده مش معناه إني مش باحب والدتك.. بالعكس باحبها أوي.. بس قلب الراجل واسع حبّتين.. يا أخي مش بتحب أغنية "محمد منير": أنا قلبي مساكن شعبية.. هاهاه..
- أيوه يا بابا أنا ما قلتش حاجة وعاذرك وفاهمك (تقولها وأنت تتذكر أنك كنت تحب وتقابل ثلاث بنات في وقت واحد.. الصبح "مها" والعصر "رشا" وبالليل "بسنت"، في النهاية اتقابلوا وحكوا لبعض!!.. كانت حكاية سودا).. أنا عارف إن الرجال قلبهم واسع حبتين بس برضه ماما ذنبها إيه؟ ترضى تقول لك نفس الشيء.. إنها حبت وكلام فاضي من ده.. بذمتك كنت عملت إيه؟
- كنت كسرت دماغها طبعا وطلقتها كمان.. يا بني الراجل غير الست وأنت سيد العارفين.. وبعدين ربنا أباح التعدد للراجل وما أباحهوش للست.
- معاك والله.. بس يعني ربنا ما طلبش منك تتجوز تاني يا بابا.. ما قالكش إنه حيزعل منك لو ما اتجوزتش.. ده اختيارك أنت.
وفجأة يفتح الباب وتدخل "نوسة" بوجه عابس ونظرة كارهة.. تقول بصوت مستفر :
- ممكن أدخل في الحوار ولاّ يعني الموضوع ده مش حيمس حياتي ويدمرها كمان..
- طبعا طبعا (يقولها بابا المسكين في مرح متكلف وقد أدرك أنه لا مهرب له) دمار إيه لا قدر الله.. هو احنا في العراق.. ها ها ها...
لكن أحدا لا يشاركه الضحك، تقول "إيناس" في انفعال:
- يعني أنت مش عارف حيتكلموا عليّ ازاي في الكلية وحيقولوا عني إيه؟.. طب والله العظيم لو اتجوزت ما أنا رايحة الكلية تاني وأنت حر.
- يعني إيه مش رايحة الكلية، هو شغل عيال.
- آه.. ما دام كل واحد في البيت ده بيعمل اللي على مزاجه يبقى خلاص.
تدرك أن الموضوع وصل لآفاق حرجة.. بابا تحول من الارتباك إلى الغضب.. وقاحة "إيناس" ستفسد كل شيء.. تصرخ في وجهها ناهرا فتنهار في البكاء ووقتها ينفذ غضب بابا ويعود لحالة الارتباك.. في الحقيقة هذا الرجل مسكين.. إنه يعمل في طاحونة مستمرة.. لا أحد يشعر به.. ربما خفق قلبه للحب.. أنت لا تعرف شكلها ولكنها بالتأكيد راقت له.. لم يصدق أن الحياة تتجمل له من جديد.. وبالتأكيد عانى صراعا مزمنا بين قلبه وعقله.. بين رغباته ومسئولياته.. بالتأكيد تنتظره أيام سوداء سيدخل فيها لمرحلة اكتئاب خصوصا حينما ينشغل الكل بحياته وتوأد تلك الخفقة الأخيرة في قلبه.. في الحق أنت لا تتمنى أن تكون مكانه وإن كنت تعرف أن هذا سيحدث لك بعد ثلاثين عاما أخرى، حينما تكون في سن أبيك.
وبمنطق برجماتي بحت تنتهز الفرصة.. وتقبل أبيك على خده وتنادي ماما لأن بابا عدل عن الفكرة.. يحاول بابا الاحتجاج ولكن بصوت ضعيف.. تعرف أنك ستنتصر.. الحقيقة أن هذا الرجل يحب أسرته فعلا ولن يهون عليه كسر قلوبنا.. ماما تعالي يا ماما.. ماما تتمنع.. "نوسة" تُهرع وتحضر ماما.. وكلنا نزف البشرى أن بابا عدل عن الفكرة.. في الحقيقة هو كان يمزح..
الكل غير مصدق ولكن لا بأس من ابتلاع الكذبة:
- صح يا بابا؟ مش كنت بتهزر وبتختبر ماما؟
- صح.. يقولها بابا في صوت ضعيف مشروخ.
تنظر إلى فستان أمك الكستور الكئيب.. وتقول في سرك: والله بابا غلبان وعنده حق.. وتنوي أن تطلب من "نوسة" أن تشتري لأمها كام فستان كده.. وشوية بودرة.. داهية ليحصل لك زي أبوك لما تكبر.. تقرر تأجيل الزواج لأطول فترة ممكنة.
ويكون المشهد الختامي هكذا:
كلكم جالسون على سرير بابا في مرح مفتعل تضحكون بأعلى أصواتكم وقد بدأت وجنتا ماما في الاحمرار، أما بابا فقد كبر ثلاثين سنة إضافية.
No comments:
Post a Comment