تبدو تونس هذه الأيام وكأنها تتّـجه نحو مُـواجهة. فقد توقّـفت فجأة كل المؤشرات التي كانت تُـوحي ضِـمنيا باحتمال تسوية عدد من الملفات السياسية العالقة، وإذا بالسلطة تقوم بعملية فرملة فجئية وحادة..
لقد قرّرت السلطة الدخول في معركة ضدّ ظاهرة ثقافية اجتماعية، من خلال محاولة تجنيد الجميع للتصدي "للمتحجبات" اللاتي ملأن الفضاءات العامة ومؤسسات التعليم بالخصوص، بعد أن خاضت منذ بداية التسعينات معركة حامية من "أجل تجفيف منابع التطرف الديني".
تبدو البلاد وكأنها تتّـجه نحو مُـواجهة. فجأة توقّـفت كل المؤشرات التي كانت تُـوحي ضِـمنيا باحتمال تسوية عدد من الملفات السياسية العالقة، وإذا بالسلطة تقوم بعملية فرملة فجئية وحادة، وتقرّر الدخول في معركة ضدّ ظاهرة ثقافية اجتماعية، من خلال محاولة تجنيد الجميع للتصدي "للمتحجبات" اللاتي ملأن الفضاءات العامة ومؤسسات التعليم بالخصوص، بعد أن خاض النظام معركة حامية من "أجل تجفيف منابع التطرف الديني".
والسؤال الذي يتردّد في جميع الأوساط: لماذا هذه الحملة؟ ولماذا الآن؟
فاض الكيل وضاقت السلطة بهذا التحوّل الاجتماعي الجاري أمام أعيُـنها وتحت رقابتها، دون أن تنجح في التحكم فيه أو حتى فهم أسبابه العميقة.
وإذا كان مشهد تونس من فوق قد غيّـرته مئات الآلاف من أجهزة التقاط الأقمار الاصطناعية (البارابول بالتعبير الشعبي)، فإن مشهد تونس من الداخل في الشوارع والمعاهد والجامعات والمؤسسات تغيّـر بدوره بعد أن اخترقته ما لا يقل عن 100 ألف متحجِّـبة ظهرت على السطح في وقت قياسي.
إنه مشهد "مُـفزع" لأكثر من طرف، "مفزع" للنظام، الذي كلما بدا له أنه قد حقّـق هدفه في استئصال ظاهرة الحجاب وما تستبطنه من بُـعد سياسي، حسب اعتقاد الجهات الرسمية، إلا ويأتي الواقع ليثبت العكس، وتشكّـل تحديا ودليل إثبات على "فشل سياسي وثقافي"، حسب اعتقاد الكثيرين.
"حيوان خرافى"
فالظاهرة تبدو وكأنها أشبّـه بالحيوان الخُـرافي، الذي كلما قُـطِـع له رأس ظهرت له رؤوس جديدة. أما الطرف الآخر الذي يشعر بـ "الفزع" فهم أولئك الذين تقترِن الحداثة عندهم بنمط مُـغاير لهذا "الزي" المشحون بالدلالات والإيحاءات.
هل أن تضخّـم عدد المحجّـبات هو الذي دفع بالسلطة إلى ممارسة تصعيد سياسي وأمني وإعلامي شبيه بما حصل في مطلع التسعينات عند احتدام المواجهة مع حركة النهضة المحظورة أم أن لهذا المنعرج الحاد دوافع أخرى؟
فالحملة أخذت أشكالا مُـثيرة للقلق. فبعد أن كانت محصُـورة داخل المعاهد وبعض الجامعات، انتقلت إلى الشوارع وحتى إلى المساجد، وهو ما اعتبرته منظمات حقوق الإنسان "انتهاكا صارخا للحرية الشخصية والحق في اختيار اللباس"، بينما فسّـرته الأوساط الدينية في الداخل وفي الخارج بأنه "اعتداء على حرية المعتقد"، بل وذهب بعضهم إلى درجة اتهام السلطة بأنها تخُـوض معركة ضد "الإسلام".
حملة "مفتعلة"
السيد خميس الشماري، الوجه الحقوقي المعروف له وِجهة نظر يُـشاطره فيها الكثير من المعارضين لنظام الحكم في تونس. فهو يعتقد بأن الحملة "مفتعلة" وأن المقصود من ورائها هو "محاولة تعبِـئة قطاعات من الرأي العام للالتفاف من جديد حول السلطة" في وقت تتهيّـأ فيه البلاد "لمواعيد هامة، مثل مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى جانب تغييرات دستورية ومؤسساتية"، حسب توقّـعاته.
وبناء عليه، يعتّـبر الشماري أن الغرض من اختيار هذا التوقيت لشنّ حملة واسعة النطاق هو "نقل مجال اهتمام الرأي العام"، كما أنه لا يستبعد أن يُـضاف إلى ذلك هدف آخر هو "محاولة أخرى لإقناع الأطراف الدولية بأن تونس مهدّدة بمَـوجة خطيرة من التطرّف الديني"، لكنه حكم على هذه المحاولة بـ "الفشل" بحكم أن هذه الدّعوى أصبحت "ممجوجة ولم تعُـد تقنِـع أحدا"، مستشهدا بما حصل مؤخرا مع النواب الاشتراكيين في البرلمان الأوروبي في اجتماعهم الأخير ببعض ممثلي المجتمع المدني التونسي الذي انعقد بمقر البرلمان في ستراسبورغ.
حديث الشماري يُـعيدنا إلى مطلع شهر سبتمبر الماضي، حيث بدت الأجواء وكأنها تُـوحي بأن السَّـنة السياسية الجديدة في تونس ستشهد مُـعالجة عدد من الملفّـات العالقة، أما اليوم، فقد انتفى الحديث عن أزمة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واحتمال الإفراج عن بقية المساجين السياسيين، وعلاقة مؤتمر اتحاد الشغل بالصُّـعوبات الاقتصادية والاجتماعية ورفع سقف حرية التعبير والصحافة، بل خلافا لذلك، تمّ التشدد مع بعض القُـضاة الذين لا يزالون يعتبرون أنفسهم "الممثلين الشرعيين لزملائهم".
كما تم تغيير طريقة التعامل مع العاطلين من حاملي الشهادات، الذين استمروا في الاحتجاج على ظروفهم، ومنع عقد اجتماع تحضيري للمنتدى الاجتماعي التونسي، رغم أن الإتحاد العام التونسي للشغل (النقابة الوحيدة في البلاد) طرف أساسي وضامن له.
كما جاء قرار إيقاف أحد الصحفيين عن العمل بسبب "اجتهاد مهني" ليُـفرمل الحركية البسيطة التي شهدتها بعض الصحف، وغرقت كل تلك التفاصيل والمؤشرات في أجواء الحملة على الحِـجاب ومن يقف وراءها من "دعاة توظيف الدين لأغراض سياسية".
توظيف الدين لأغراض سياسية
ويعتقد النائب البرلماني السابق خميس الشماري بأن مُـعاجلة ظاهرة الحجاب بالوسائل التعسّـفية والإدارية "لم ولن تكون مجدية"، وهو موقف الأطراف الحقوقية منذ أن صدر المنشور (تعميم وزاري) رقم 108 في عام 1981، ويرى أن البلاد في حاجة إلى نِـقاش وطني حُـر ونَـزيه لفهم الظاهرة ومعالجتها بطريقة تضمَـن حماية مكاسِـب النساء التونسيات، وتحُـول دون "كسر ميزان الحرارة"، على حد تعبيره من قِـبل الإسلاميين.
من جانبها، تؤكّـد بشرى بلحاج حميدة، المحامية والنشطة النِّـسوية في حديث مع سويس أنفو بأنها "ترفض بصفة قطعية لُـجوء السلطة إلى المساس بمبدأ حرية الفرد في اختيار اللباس"، لكنها تُـقر بأن الموضوع معقَّـد و"لا يمكن حسمُـه في اتِّـجاه واحد"، وتعتقد بأن ميزان القوى الإعلامي هو حاليا لصالح دُعاة الحجاب، مشيرة إلى القنوات الفضائية ذات التوجه الديني، التي استطاعت أن تقنع هذا العدد الكبير من التونسيات بوجوب ارتداء هذا النوع من الزي.
فبشرى تخشى من "هيمنة اللِّـباس الواحد بعد أن سيطر الفكر الواحد"، وتعتبر أن ما تُـردِّده أجهزة الحزب الحاكم حول الخَـلط بين المحجّـبات والانتماء إلى الحركات الإسلامية غير دقيق، حيث تبيَّـن لها من خلال مُـحيطها واتصالاتها أن أغلبية حاملات الخمار لا ينتمين إلى أي تيار سياسي، وأن اختيارهن جاء نتيجة اعتبارات متعدِّدة بعيدة في أغلبها عن القضايا الأيديولوجية والسياسة، لكنها في المقابل، تعتقد بأن "الذين يروِّجون لهذا النَّـمط من اللِّـباس، سياسيون، لهم أهداف لا تخدِم حقوق النساء"، على حد قولها.
حملة غير مسبوقة .. ومحرجة
فهل ستشهد مرحلة ما بعد عيد الفطر هدوءًً للعاصفة يكون أشبه بالهُـدنة، أم أن السلطة ستستمر في حملتها، رغم اعتراضات أو تحفُّـظات الكثيرين؟
المؤشرات الحالية تدُل على أن التَّـصعيد مرشح للاستمرار، حيث تواصل قيادات الحزب الحاكم تنظيم الاجتماعات والمسامرات السياسية في كل أنحاء البلاد، ولا يزال المسؤولون مستمرّين في جولاتهم وتصريحاتهم المُـناهضة للحجاب ودعاته، ومع أن الأمور لم تصل إلى حد القيام باعتقالات واسعة، إلا أن العديد من التلميذات والطالبات تعرّضن للطّـرد، كما تمّـت الإساءة لبعض المحجَّـبات في الطريق العام أو عند خروجهن من بعض المساجد على إثر الانتهاء من صلاة التراويح.
في المقابل، يتعرّض النظام التونسي لحملة غير مسبوقة في اتِّـساعها من قبل مئات الأقلام والمواقع الإلكترونية والجهات الدينية في كثير من البلاد العربية وغيرها، وتتراوح مواقف هذه الأطراف بين مُـستغرب وناقد ومستهجن ومتحامل، حيث بلغ الأمر بالبعض إلى حد اتهام السلطة في تونس بأنها "معادية للإسلام"، وهي حملة أحرَجت النظام ودفعت به إلى الرد بقوة والدفاع عن "المفهوم التونسي للدِّين" واستعراض ما أنجزه النظام في خدمة العقيدة.
ولخص السيد عبد العزيز بن ضياء، وزير الدولة الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية الرد الرسمي على الحملة الخارجية المُـضادة بقوله في اجتماع حزبي "تونس لا ترضى بالتبعية ولا تقبل دروسا في الدين"، وبأن تونس "تميّـزت مُـنذ الفتوحات الإسلامية بإعمال العقل والوسطية والاعتدال". وذهب وزير الشؤون الدينية إلى حد وصف الحجاب بأنه "مؤشر على حالة انبتات حضاري"، أما صحيفة "الحدث" فقد اعتبرت أن الحجاب هو "لباس العاهرات" وأنه "مصدر للأمراض والأوساخ"!؟.
هذه الأجواء المُـحتقنة، اعتبرها البعض "مناخا مناسبا" للذين يتصيّـدون المناسبات لتنفيذ مخطّـطاتهم العنيفة والإرهابية، لكن آخرين يُـحذرون من الانزلاق في متاهات العُـنف التي ستستغل بشكل قوي أو التهجّـم على بقية التونسيات اللاتي يُـشكلن الأغلبية ولم يقتنِـعن بإلزامية ارتداء الخِـمار من الناحية الدينية فالشطط في الدفاع عن حرية اللباس قد ينقلب إلى ممارسة نوع من "الإرهاب الفكري" المضاد.
وفي كل الحالات، فالواضح أن النظام يخُـوض معركته هذه بشكل يكاد يكون منفردا. فحتى الأصوات المعروفة برفضها لهذا الزي ومعاداتها الصريحة للإسلاميين حبذت الصمت أو أعلن بعضها اعتراضه على الأسلوب الأمني، إلا القليل من الذين تناغموا مع هذه الحملة. أما بقية التونسيين، فهم في حيرة من أمرهم، لا يفهمون ماذا يجري، وإن كان معظمهم يعبِّـر عن أزمة الهوية والانتماء بطرق وأشكال وأساليب متعددة.
صلاح الدين الجورشي - تونس
No comments:
Post a Comment